فضاء حر

ارشيف الذاكرة .. أول مرة .. رجل يقبّل حبيبته

يمنات

أحمد سيف حاشد

– فيما كانت السيارة السوداء الفخمة التي تقلّني، تمضي بسرعة في شارع متسع نحو “السرك” في العاصمة موسكو، شاهدت في إحدى جنباته رجل و حبيبته مخمورين في حب عميق، و هو يلثم فمها كعاشق محترف، ثم يميل على عنقها بحنين .. برهة زمن سكنت عمق الذاكرة، و لا تغادرها مهما مضى من عمر أو تقادمت بها السنين .. تحت شجرة وارفة، و سماء تبارك اللحظة المتفجرة بالعشق المرتعش، و حياة تموج بالوجود اللذيذ، و روح توحدت و تكثفت كسحابة مطر، بشهد لهفة اجتاحت الروح و الجسد بالأبعاد الأربعة، و ألق الوصل الحميم، و الفرح المتوج ببهجة الحب المؤيد بالسماء، و المكتوب في الغيب منذ الأزل..

– تجاوزنا المكان، و السيارة المارقة تدير ظهرها للعاشقين، و عيوني مشنوقة في المدى الذي بات فيه المكان خلفنا يتلاشى و يغيب في البعيد .. سحقت دواليب السيارة المسرعة فسحة لم تُتاح، و مهلة رجوتها، فتبددت تحت الإطار، و غرق الحال في أسوئه، و صرتُ في السيارة التي تحملني أحمل نعشي المثقل بالحرمان و الحزن العميق..

– في اغوار سري كتمت جام غضبي، على سائق السيارة الذي لم يمهلنِ فسحة امعان النظر، في مشهد رأيته للمرة الأولى في حياتي التي لطالما خنقها العيب، و أعطبها الخجل، و اصطلتُ بنار الحب المعذب، و المغلول بقيود المجتمع الضارب عمقه في الماضي الدميم .. حياتي التي كان حلمها الأول وصلا بمن أحب، أو لقاء حبيب..

– أنا القادم من جحور العيب، و من بلاد ترى الحب أنه أول أعداءها، و تنزل فيه حُكمها الصارم، صلبا و شنقا على المآذن و بوابات المدائن .. حب تُجرّمه البلاد بالعار الوخيم، و تتعقب ورثته بحمية الشرف الرفيع، فيما الشرف كله مُنتعل، و مستباح كل يوم أمام العيون و الجرائد و نشرة الأخبار .. شرف مستباح من أقصى الخليج إلى المحيط .. بلاد تقمع الحب بقسوة الوأد، و الحمية المتجذرة في الوعي الجلف بالبداوة المجدبة .. وعينا المحروس بعفن القبيلة و التقاليد وما بلى .. أعراف تقطع عن وعينا الماء، و تمنع عنه الهواء .. وعينا المثقل بعصبية الحمية التي تصلب العشق أينما ثقفت به، و تقتل المحبين بألف تهمة..

– أحسست و أنا أرحل عن مشهد الحب كزهرة عباد شمس تذوي ذابلة في تعس الغروب، و عنقي المقصوف بأحمال القرون الضاربة في الزمن البعيد .. زمن الوأد و العار و النخاسة .. و ذاكرتي التي تركتني أذهب، و بقيت هي حية في نفس المكان، و آويت أنا إلى بلادي التي لازالت محكومة بشيوخ الفتاوى و القبيلة، و طغاة القمع، و طغيان الظلام الكثيف..

– شعرت أن العمر يفوت كالريح، و يمضي مسرعا نحو التبدد و الضياع .. مضى العمر أسرع من سيارة ركبتها ذات يوم .. و اليوم ألفية ثالثة تضرب العشرين بعدها، و ما كنت أخالها تمضي على عكس حلم أروم، و جاءت الأقدار بغير ما أريد .. بت كالحصان العجوز الذي لم يعد يقوى حتى على جر خيبته..

– أقطر اليوم عمري الذي ضاع، و أيامي التي فاتت و باتت فارغة كالعدم، و ندم كبير يثقل كاهلي .. و عيناي شاخصتان في وجهي المغضن بالزمن .. عيناي باتت مشنوقتين بحبل من مسد، و حسرة تطويني من قمة الرأس إلى قاع القدم كقرطاس أبلاه الزمن، و لعناتي على سائق مربوط بحزام لا يتمهل و لا يلتفت..

– تلك كانت بعض من قصتي مع مشهد رأيته للمرة الأولى في حياتي المعذبة .. رجل يقبل حبيبته دون أن تناله سلطة أو عيون أو فضول، غير أنا الآتي من الجحيم، و المثقل بوطأة الحرمان الأشد، و هذا الزمن الذي لازال علينا بأحمال ثقال، ثقل الجبال الراسيات..

***

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى